يناير 2014
نظر الفلاح العجوز للشاب بتفهم وقال له : أعرف أن حصادي يواجه مشكلة هذه السنة ، لكني في هذا الحقل منذ سبعين عاما…لا أعرف كيف يمكن لك أن تخدمني أو تنقذ المحصول؟
نظر الشاب للفلاح بتفهم ممائل: من قال لك سيدي أني أرغب بذلك؟
بان الاستغراب على وجه الفلاح : ماذا إذن ؟ مالذي يجعلك تأتي إلى هنا؟ ألم تتحدث للجميع عن الزرع والزراعة والبذار ؟
قال الشاب : نعم سيدي ، لكن يؤسفني أن أقول لك أنني لم أقصد أبدا أن أساعدك في محصولك ، ليس لأن ذلك ليس في قدرتي فقط ، بل لأني أدرك جيدا أن محصولك لا يمكن إنقاذه..يؤسفني أن أقول ذلك وأنا أعرف كم ضحيت أنت وتعبت من أجله..لكن سيدي..محصولك لا يمكن إنقاذه..يمكنك أن تستمر بالمحاولة إن شئت..لكني أجد من واجبي أن أخبر من يعلقون آمالا على حصادك ويضحون من أجله..بأن انتظارهم لا معنى له…
بان الألم على وجه الشيخ ، ثم سرعان ما غلبه الغضب : كيف تقول هذا؟ هل تعرف كم ضحينا أنا ومن معي في هذا الحقل؟ هل تعرف كم من ابتلاءات مررنا بها وعبرناها؟
قال الشاب : اعرف ذلك سيدي وأقدره ، لكن هناك ما هو أهم من حجم التضحيات فيما يتعلق بالوصول للحصاد..
رد الشيخ : والآن ستعلّمني !
قال الشاب : سيدي ، إصلاح الأرض وعزقها من الأعشاب الضارة كان أهم من كل شيء..كيف ستنمو بذورك وأدغال الحقل تشاركها الماء والهواء؟ لكنك فضلت أن تبقي على الأدغال وتنثر بذورك بينها!
رد الشيخ بتبرم : أنت لا تعرف شيئا عن ذلك، لم يكن من الممكن قطع الأدغال ، ليس فقط لأنها قوية ، لكن لأن الناس كانت تحب منظرها ، تعودت عليها ، وقطعها كان سيؤلب الناس ضدنا ، ونحن نحتاج الناس للعمل في الحقل..كيف سيضحون معنا إذا كنا قطعنا أدغالهم؟
قال الشاب : نعم وهذا حدث مع كل شيئ..فضلت كمية البذور على نوعيتها..فأخترت البذور الرخيصة التي استنفذت انتاجيتها بدلا من البذور القوية الجديدة..فضلت آلات الزرع البدائية بدلا من الآلات الحديثة..لم تدرس طبيعة التربة..ولا مواقيت الزرع..لم تضع جدولا للسقي..لم تحم البذور من الغربان ، بل قلت دعها تأكل ولنا فيها أجر…أنت لم “تعد” شيئا على الإطلاق..ورفضت أي طريقة زراعة أخرى، قلت أنك وحدك تملك حق الزراعة واتهمت كل المزارعين في كل ما يفعلونه، رغم أن حصادهم كان أفضل منك بكثير.
قال الشيخ وهو واثق من كلامه : كانت هذه تضحيات من أجل الاستمرار بالعمل…ما قرأتموه في الكتب كلام نظري..فقه الواقع شيء مختلف..
رد الشاب : كنت واثقا من قولك هذا ، وأنا لا أستطيع أن أجبرك على تغيير أفكارك وترك الحقل..كل ما أقوله هو أن هناك بذورا أخرى ، هناك أرض أخرى يمكن استصلاحها وأدغال يجب التعاون مع الجميع في عزقها..هناك حقل آخر علينا أن نتعاون فيه مع الجميع..لأنه لا يمكننا أن ننتظر سبعين عاما أخرى في تضحيات دون تخطيط أو إعداد..
قال الشيخ بسرعة : أنت تستغل محنتي لتظهر كما لو أن خطتك هي الأفضل..هذا حظ نفس واضح.. هل أرسلك أحد؟ ألا تلاحظ أن عملك هذا يصب في صالح أعداء الحقل..حتى لو لم تكن تقصد هذا فهذا يحدث..
قال الشاب :كنت واثقا من أننا سنصل إلى هنا..دع حظ نفسي فلا أحد يعلم ما في نفسك ولا نفسي إلا من خلقهما..ودع عنك كلام “أن هذا يصب لصالح الأعداء”،فقد ارتفع سعر محصولهم بسبب خراب محصولك مرة بعد أخرى..كنت أنت أكثر من نفعتهم..
قال الشيخ : أنت تريد أن تأخذ مني عمالي هذا كل شيء…
قال الشاب : لا…لكنهم سيأتون ، عندما ترفع العصابة عن أعينهم ويرون الحقيقة القادمة : “لا حصاد لهذه السنة أيضا”…كما في كل سنة..استودعك الله..
ومضى الشاب..
قال الشيخ بصوت عال :الحصاد في الآخرة!
رد الشاب: الدنيا مزرعة الآخرة!..فلا تبالغ في تفاؤلك عما سيحدث هناك وأنت لم تعد شيئا هنا..
قال الشيخ بصوت أعلى والشاب يبتعد: أنت لم تزرع من قبل.
رد الشاب : وأنت لم تحصد شيئا منذ سبعين عاما..
ثم من بين شفتيه بصوت منخفض :ثم أنك لست “نوحا” كي أبقى معك ألف سنة..
من رواية لم تكتب بعد..
لكنها تحدث عند منعطف كل قرن.
وتحدث هذه الأيام بالنيابة عن بضعة قرون.