اكتوبر 2010
أحمد خيري العمري
( المنامات) وتأويلها تحتل جزءا لا يستهان به من موروثنا الفكري ومن طريقة تفكير جزء كبير من جماهيرنا، والدخول في نقد ” المنامات” و” نمط التفكير” المستند عليها يشبه الدخول في حقل ألغام تاريخي محصن بقداسة الأسماء والرموز المختلطة بهذا الحقل.
أفهم كل الحساسيات وردود الأفعال الناتجة عن هذا، لكني رأيت فيما لا يراه النائم أن السكوت عن هذا لم يعد مجدياً.. رأيت فيما لا يراه النائم أننا إذا لم نغامر بالدخول في حقل ألغام كهذا فإنَّ نسبة الخطر ستكون أكبر.. مع حقل الألغام هناك فرصةٌ للنجاة.. لكنَّ “الوضع الراهن” والبقاء فيه والسكوت عليه هو موت محقَّق.. بل هو انتحار مع سبق الإصرار والترصد.. وبالوضع الراهن أقصد ثقافتنا كلها… ثقافتنا التي آمل أن الأوان لم يفت بعد في إعادة تقييمها وتكريرها بناءً على النصوص الدينية الثابتة وليس بناءً على تراكم في الفهم، البعض منه نشأ وازدهر في عصر انحطاط الأمة وابتعادها عن منابعها الأصلية..
هناك في موروثنا عدد كبير من الرؤى والمنامات المنسوبة لرجال صالحين، وهناك أيضا عدد من النصوص الضعيفة التي تتحدث عن الرؤيا وتعبيرها..
وهناك عدد قليل جداً من النصوص الصحيحة عن الأمر ومنطوق بعضها يناقض تماماً ما يستخدم من المنامات.. لكن “العقل الجمعي” السائد يقوم بخلط الصحيح بالضعيف بالأقوال المنسوبة للرجال الصالحين، ويقدِّم فهماً بأثرٍ رجعيٍّ ومضخّم لموضوع المنامات والرؤى..
قلَّة عدد النصوص الصحيحة وقلَّة عدد رواتها من الصحابة (كلُّها أحاديث آحاد) تشير أولاً إلى أن هذا الأمر لم يشغل بال الصحابة أكثر مما يجب (وهو أمر طبيعي جداً.. فالمجتمع الناهض لا ينشغل أفراده بمناماتهم وتفسيرها بل بتحليل الواقع من أجل إعادة بنائه)..
لكن ما هو أهمّ من ذلك كون هذه الأحاديث الصحيحة تتفق في مضامينها على تحديد خطوات معينة للتعامل مع الرؤى والمنامات بمعزل عن ما ورثناه من الفهم السائد للأمر..
أول هذه النقاط هو تعدُّد مصادر الرؤيا بغض النظر عن كون متلقيها رجلاً صالحاً أو دون ذلك فالحديث الصحيح يقول: “الرؤيا ثلاث، فالبشرى من الله وحديث النفس وتخويف من الشيطان..” (رواه مسلم واحمد والترمذي) ويقول حديث آخر:” الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ..” (متفق عليه) ويوضِّح حديثٌ ثالثٌ أكثر فيقول فيه عليه الصلاة والسلام: “لم يبق من النبوة إلا المبشّرات، قالوا: وما المبشّرات؟ قال الرؤيا الصالحة “(رواه البخاري) .. وهذه الأحاديث –وألفاظها كثيرة وإن اتفقت بالمعنى- تحدِّد أن “الرؤيا الحسنة” حصراً هي التي تستحق أن تؤخذ على نحوِ جديّ لأنها من الله .. أما غير ذلك فهو إما حديث نفس ( ترسبات لأمر يشغلك في صحوك وهو أمر طبيعي جداً ولعل أغلب المنامات تندرج ضمنه)..
أو أن تكون رؤيا سوء، ويكون مصدرها عندئذ الشيطان بحسب الحديث الصحيح، ولما كان “الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم” بحديث صحيح آخر (متفق عليه)، فإن وقوع رؤيا –أو حلم في حديث صحيح آخر- من الشيطان لا يعني أبدا أن الشخص الذي وقعت له الرؤيا قد خرج من عداد الصالحين..
كذلك فإن استخدام لفظ “المبشّرات” لوصف الرؤيا الصالحة الحسنة التي هي منه عز وجل يوحي بمضمونها وبتفسيرها الايجابي، فهي تحمل بشارة تساعدك على المضي قدماً في العمل.. ويقابلها لفظ “التخويف” الذي استخدمه عليه الصلاة والسلام في وصف ما يأتي من الشيطان.. فالتخويف هنا دلالةٌ واضحةٌ على المعاني السلبية المثبّطة التي قد تأتي من” الرؤيا السيئة”.. كما أن ذلك كله يمكن فهمه بشكل أوضح في سياق حديثٍ صحيحٍ آخر عن التعامل مع الرؤيا الصالحة والسيئة: “فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصّها إن شاء، وإذا رأى شيئا يكرهه فلا يقصّه على أحد، وليقم يصلي“(مسلم واحمد والترمذي) كذلك :” ..فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ» (رواه مسلم) وهذا يعني بوضوح أن نعمل على تجاهل ما يسيئنا مما نراه في المنام والمضي دون الاكتراث أو التوقف عنده، وأن نعمل على العكس من ذلك على الاحتفاء بالرؤية الصالحة –البشرى-لإشاعة جو إيجابي حريص على العمل..
كذلك يدلُّنا حديثٌ آخر على العلاقة بين “تفسير” الرؤيا وبين وقوعها الفعلي لاحقاً.. “إن الرؤيا تقع على ما تعبر(=تفسر) ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً”(أبو داود والترمذي وأحمد).. فهنا إشارة واضحة إلى الأثر النفسي الذي يحدثه تفسير الرؤيا على الشخص.. فإذا كان التأويل إيجابياً أدّى ذلك إلى أثرٍ ايجابيٍّ على الشخص وإذا كان التأويل سلبياً تخويفياً أدّى إلى تثبيطه وإحباطه، ولذا يكون الحديث صريحاً في ضرورة أن يكون من يفسِّر الرؤيا عالماً (أي ملمّاً بالضوابط التي وضعها عليه الصلاة والسلام وليس عالماً بالأحلام مثلاً!!)
أمورٌ أخرى يجب توضحيها، أولها مشاهدة النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، فقد ورد في الصحيح أن الشيطان لا يتمثل به، دون أن يبنى على ذلك أيُّ حكم شرعي يتعلَّق بما قد يقال في المنام، فالحديث لم يشر إلى أن ذلك يعني أن ما سيقوله في المنام سيكون منسوباً له، الحديث كان عن الشكل والهيئة فقط..
ثانيها إن سورة يوسف، وتأويله عليه السلام لرؤيا الملك التي أدت إلى تغيير السياسة الاقتصادية للبلاد، لا تعني قطّ أنه يمكن الركون إلى المنامات وتأويلاتها في تغيير الاستراتيجيات… القصة بأكملها تتعلق حصرياً بنبيٍّ كريمٍ وبقصةٍ تمكُّنه وتمكينه في الأرض، وهذا يظلُّ خاصاً به وبسيرته فقط.(والأمر ذاته يتعلق برؤيا إبراهيم وذبح ابنه).
ثالثها إن صلاح أيِّ رجلٍ وتقواه لا يمنحه بالضرورة الصواب في تأويل المنامات كما أن ذلك لا يمكن أن يعد مثلبة في حقه، فقد ثبت أن أبا بكر أوّل رؤيا لرجل في حضوره عليه الصلاة والسلام وسأل النبي إن كان قد أصاب أو أخطأ فقال له عليه الصلاة والسلام (أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا) وعندما طلب أبو بكر أن يحدّد له فيم أصاب وفيم أخطأ نهاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، لأن الأمر كله غير مهم.. ونحن هنا نتحدث عن أبي بكر الذي هو ثاني اثنين في الغار.. ورغم مكانته فإنه لم يصب تماما في التأويل.. ولم يكن ذلك كبير مشكلة في أيّ شكلٍ من الأشكال..
هذه باختصار الخطوط الرئيسية في التعامل مع المنامات بحسب النصوص الصحيحة.. تعاملٌ في منتهى العقلانية مع ظاهرة لا يمكن إخضاعها للعقل تماماً.. تعامل عقلانيّ بالمعنى القرآنيّ الإسلاميّ وليس بالمعنى الغربي الوضعي: أي يركِّز على الجانب الإيجابي ويستثمر فيه لما فيه مصلحة الإنسان، ويحاول أن يدفع ما هو سلبيّ ومثبّط.. ويبقى رغم ذلك كله ضمن هامش ضيّق لا يتجاوز حدوده ولا يطغى على مساحة اليقظة الأكثر أهمية والأكثر استحقاقا للتحليل والتفسير..
كان هذا هو ما أسسه الإسلام بنصوصه الصحيحة بخصوص المنامات، لكن تقاطعات السياسة والعقيدة في تاريخنا الإسلامي أفرزت ثقافة لا عقلانية –لا عقلانية بالمقارنة مع ما أسسه الإسلام ابتداء-.. واستطاعت هذه الثقافة أن تتراكم وتبرز بالتدريج مع البعد عن منابع الإسلام الأصيل، وبروز النصوص الضعيفة والهرم التدريجي الذي أصاب الأمة.. وانتهى الأمر بالمنامات في موروثنا وهي تحتلّ مساحة أكبر بكثير من الهامش الذي وضع لها أساساً بل وهي تناقض الضوابط التي حددها عليه الصلاة والسلام..
تعج كتب الرقائق والزهد وحتى العقائد بمنامات لرجال صالحين ظهروا في المنام لرجال صالحين آخرين بعد موتهم ليخبروا بأخبار تتعلق بصلاحهم أو تعلن تأييدهم لعقيدة معينة أو حتى فتوى معينة.. لقد وصل الأمر بأحد كبار علماء المسلمين في القرن التاسع الهجري إلى أن يصحّح حديثاً موضوعاً بحجة أنه عليه أفضل الصلاة والسلام ظهر لأحدهم في المنام وأكّد أنه قاله!!.. كما أن أحد أكثر الكتب رواجاً في التاريخ الإسلامي كان مليئاً بمنامات الصالحين حتى إنها صارت فيه من موارد الشرع والاستدلال..، علماً أن رجلاً صالحاً آخر قد رأى في المنام أنه عليه الصلاة والسلام قد باهى موسى وعيسى عليهما السلام بواضع هذا الكتاب تحديدا.. وهكذا..
قد يستغرب البعض من حجم التناقض بين ما أرساه الإسلام وبين ما ورثناه من مفاهيم متراكمة تنسب نفسها إلى الإسلام.. لكن لا غرابة في الحقيقة.. فالأمثلة السابقة أفرزت في ظروف انهيار الحضارة الإسلامية وولوجها في عصور انحطاطها ( تدوين الموسوعات في هذه الفترة لن يغير ذلك)… وهل من شيء أنسب لعصر الانحطاط غير عقلية المنامات والإكثار منها.. أليس النوم وسيلة للهروب من واقع صعب؟ أليس الإبحار في المنامات والرؤى أسهل طريقة للتخلص من واقع يجب تغييره.. هل نستغرب اليوم استمرارنا في ذكر المنامات واهتمامنا البالغ بتأويلها.. (يوجد قناة فضائية عربية مختصة بتفسير الأحلام، أكرر.. مختصة بتفسير الأحلام أي أن كل برامجها تدور حول هذا، عدا البرامج الخاصة في الفضائيات الأخرى وهناك أيضا خدمة هاتفية لتفسير الأحلام، وطبعا كتب تفسير الأحلام تبقى أكثر رواجاً من أي كتاب يحاول تحليل وتفسير الواقع….).. أليس هذا كله منطقياً تماماً مع واقعنا المتردي.. أليس هناك ربط حتميّ بين ثقافة كهذه وبين هذا الواقع…؟
أدرك جيداً حساسية الخوض في كل هذا.. لكني رأيت فيما لا يراه النائم أن كلّ حديث عن نهضة وتقدم وتطور لن يكون سوى عبث إن لم نجتثّ موانع النهوض والمثبطات التي ألصقت ظلماً بديننا عبر عصور الانحطاط.. كلّ محاولة لزرع بذور النهضة لن تجدي ما لم نستأصل الأعشاب الضارّة التي تعجّ بها أرض أفكارنا…
في الحقيقة لقد رأيت فيما لا يراه النائم أنه لا خيار غير هذا…