يناير 2014
حدثني فجر اليوم أحد الأخوة عن تجربة مر بها قبل سنوات طويلة.
كان في مطلع العشرينات ويهوى الشعر ، كتب ديوانا صغيرا ضم بعض القصائد التي نشرتها له بعض الصحف ، ثم أراد أن يأخذ رأي ( المختصين) ، فذهب إلى أحد أعضاء ( اتحاد أدباء المدينة الفلانية) ممن تخصص دراسيا في اللغة العربية ، فأرجعه إليه وهو يقول له أنه لا يوجد ذرة شعر واحدة في الديوان ، وأنه مجرد (فورة) وقال له بالحرف أن (يبله ويشرب ماءه).
أحبط صاحبنا بطبيعة الحال ، بقي محبطا بعيدا عن الكتابة لأعوام.
لم أطلع على الديوان ذاك ، لكني أعرف أن أسلوب الكاتب جميل ، ولن أزيد على ذلك الآن ، لأن هذا ليس موضوعي.
موضوعي هو ما قاله هذا الناقد …عضو أتحاد أدباء المدينة الفلانية ، ربما لم ينشر شيئا سوى مقالات في جريدة محلية لا يطلع عليها أحد ، ومقالات كلها من نوع ( فليبلها ويشرب ماءها ) أو مدح بسبب علاقات شخصية ومجاملات من نوع ( شيلني وأشيلك).
كيف يمكن لأي شخص أن يقتل موهبة ما بهذه الطريقة ؟!
ربما كان هذا هو رأيه ، حسنا هذا هو رأيه ، لكن هذه مسألة ذوقية ، الآراء فيها ليست مطلقة ، بل نسبية وشخصية للغاية ، بعض أهم الشعراء العرب مثلا ، لا أجد شخصيا في شعرهم أي شيء مميز ، لكن هذا لا يعني أن شعرهم سيء ، بل يعني أني لا أستقبل بثهم فحسب ، وقد يستقبل الملايين سواي هذا البث ويستمتعون به أيما استمتاع. ولن يضره أني لا أستقبل بثه ، بل لا يضره حتى لو أعلنت هذا الرأي..
لكن أن يقال ذلك لشاب في أول الدرب؟!
ثمة قصة معروفة جدا عن تشايكوفسكي ، الموسيقار الروسي ، كان لا يزال شابا ، ولكنه لم يكن في أول مشواره بالضبط ، كتب مقطوعة البيانو المعروفة بـ ( بيانو كونشيرتو رقم واحد ) ، وذهب ليعزفها لأحد أساتذته المهمين وعازف البيانو المفضل لديه( روبنشتاين) ، استمع روبنشتاين للمقطوعة كاملة بينما تشايكوفسكي يعزفها أمامه ، لم يقل كلمة واحدة ولم يبد على وجهه أي شيء ، أكمل تشايكوفسكي (الذي روى الواقعة لاحقا بالتفصيل) العزف وهو يدرك أن هذا الصمت والجمود يخفي شيئا ما . شبه الأمر بوجبة طعام تعدها لساعات لضيف قادم ، ثم يجلس أمامك ويأكل بهدوء دون أن يبدي إعجابه ولو قليلا بما يأكل.
كان هناك طرف ثالث في المشهد ، لكنه كان ينتظر رأي روبنشتاين لكي يؤيده!.. أي أنه كان مع التيار :عليهم عليهم ، معاهم معاهم…
أنهى تشايكوفسكي العزف و نظر لروبنشتاين طالبا رأيه.
بدأت الكلمات تخرج من فم روبنشتاين في تصاعد وحدة : ضعيف ، مفكك ، بلا قيمة ، ولا يمكن عزفه ، الأمور الجيدة مسروقة من آخرين ،…مبتذل…الخ.
صدم تشايكوفسكي جدا ، بل إنهار لساعات ، خرج دون أن يقول كلمة واحدة وكتب أنه قال في نفسه أنه لم يعد الطفل الذي يقال له ماذا يفعل ، وكنب أنه يحتاج إلى ( النقد الصديق) ، ولكن لم يكن هناك أي صداقة في هذا الذي قيل له.
بعد ساعات طلبه روبنشتاين ليواسيه ، أعاد عليه أن المقطوعة سيئة جدا و مستحيلة العزف ، لم يتراجع عن كلامه ، لكنه قاله بطريقة أخف ، ثم قال له إنه إذا أعاد العمل عليها ونفذ ملاحظاته ، فـأنه سيكون له (الشرف بأن يعزفها).
رد تشايكوفسكي : لن أغير فيها نوتة واحدة. سأعزفها كما هي.
وخرج.
المقطوعة لم تنجح فحسب ، بل نجحت نجاحا فوريا صاعقا ، وتعد حتى اليوم من أكثر مقطوعات البيانو مبيعا في العالم.
وتراجع روبنشتاين بعدها بسنوات عن رأيه الأول فيها.
*****
هل كان روبنشتاين صادقا في شعوره الأول تجاه المقطوعة ؟ ربما.
لكن من المحتمل أيضا أنه ببساطة لم يحتمل كل هذا الجمال فيها ، ببساطة لم يفهم لم تكون هذه الموهبة من نصيب تشايكوفسكي وليست من نصيبه هو ، هو الذي كان أستاذا لتشايكوفسكي !
ببساطة : ربما سيطرت الغيرة عليه ، ولو على نحو لا واعي ، فأخرجت تلك الكلمات من فمه..
*********
يحدث هذا كثيرا عند النقاد أو المنتقدين، البعض منهم يكونون أكثر وعيا بما يعانونه من غيرة ، لذا يغلفون أقوالهم ببعض القشور المهذبة ، لكن بين حين وآخر تلمح حسرتهم تأكلهم : لم ليس أنا ؟
ليس الكل طبعا. هناك من ينقد بموضوعية ويحيد كل مشاعر شخصية له تجاه الموضوع…
لكن هؤلاء هم دوما أقلية.
كما في كل ( كار).
******
عزيزي المنتقد الغيور..احرص على إخفاء غيرتك عندما تنتقد…
لأنها واضحة جدا…
وصديقي الذي قدم ديوانه الأول لعضو اتحاد أدباء المدينة الفلانية ..
هل تحس منهم ( الاتحاد كله) من أحد ؟ أو تسمع لهم ركزا ؟