مساء خريفي في بغداد…لعل السنة كانت 1986…
أذكر أنه كان الخميس…
كنت راجعا من المركز الثقافي الفرنسي في الكرادة داخل..إلى بيتنا في بارك السعدون..
لسبب ما ، لم أدخل إلى حينا من الطريق المعتاد ، بل أكملت سيري إلى الطريق السريع ( محمد القاسم ) بحيث أدخل الحي من الخلف..(لسنين تذكرت الحادثة ولم أفهم لم اخترت هذا الطريق ، اليوم وضعت نفسي مكان أحمد الخجول ابن الستة عشر عاما ، فقدرت أنني على الأغلب كنت أحاول تجنب رؤية شخص ما سيكون من المتوقع رؤيته في الطريق المعتاد)..
وأنا في طريقي ، كان ثم مشهد لن أنساه قط..
في تلك البيوت الفقيرة المطلة على الطريق السريع ، يسمونها السدة ، ويفصلها عنا شارعان وعوالم طبقية ، كان هناك جندي يودع أهله على باب بيتهم الصغير الفقير..
شدتني حميمية الموقف ، كان الجندي يضحك ويتحدث بصوت مرتفع ، كان هناك دموع من والدته ، لكن الجو العام كان متفائلا..ربما ألقى أحدهم بنكتة أو تعليق مضحك..أو ربما كانوا متفائلين فعلا…
أذكر أن المرأة التي يبدو أنها والدته أفرغت خلفه طاسة ماء على الأرض..كعادة العراقيين في وداع الأحبة…يفرغون الماء على الأرض على أمل أن يعود الحبيب المفارق قبل أن يجف الماء (لو عاد قبل أن يجف الماء سيكون غالبا لأنه نسي شيئا ما…!)
لم أر وجهه بعدها قط..
لكني أزعم أني أذكره..وأني لو رأيته اليوم لعرفته..
أو أني قد أغلط بينه وبين ملايين العراقيين الذين يشبهونه.
********
بعد أيام أو أسابيع استيقظت بعد منتصف الليل.
كان الشتاء قد دخل على الأغلب ، لأني لا أزال أذكر رائحة المدفأة الزيتية في غرفتي ، كنت أجفف عليها ملابسي وتتشاجر معي أمي ، لا أزال أذكر لون اللحاف ..وخارطة الإدريسي فوق رأسي هو وبحر ظلماته الذي كان ينتظر العراقيين…
استيقظت على أصوات طلقات الرصاص..هكذا كان يستقبل العراقيون شهداءهم…
“شهيد جديد في الحي إذن”…
وعدت إلى النوم..
*************
صباحا ذهبت كالمعتاد لانتظار باص المدرسة ، كلية بغداد بكل عنجهيتها ، وباص رقم 5 المارسيدس الفخم..
كان يمكن أن يكون طريقي من مكان آخر مختصر ، لكن كان ثمة طالب مستجد في المدرسة ، في الأول المتوسط (السابع) وكان والده قد طلب مني أن أمر عليه كل يوم لأنه يخاف عليه من الذهاب بمفرده..
في الطريق إلى بيت الطالب المستجد الذي أعتقد إن اسمه كان وليم ، عرفت أين كان مصدر الرصاص في الليلة الماضية..
ثمة بيت ، كان هناك اليوم عليه لافتة سوداء…
كان نفس البيت الذي سكبت تلك الأم أمام بابه الماء آملة أن يرجع ابنها بسرعة..
لكنه عاد شهيدا..
من اللافتة عرفت اسمه ، وعبر عقود ثلاثة تقريبا بقيت محتفظا به في ركن من أركان ذاكرتي ـ الاسم الثلاثي واللقب..
كان اسمه “إبراهيم كريم وادي اللامي”..
لن أنساه أبدا..
*******
تذكرته اليوم ، بلا سبب…
يعتقد العراقيون أنهم عندما يتذكرون ميتا ما دون سبب ، لم يكن قريبا منهم جدا ،ومات منذ مدة طويلة ، يعتقدون أنه في وحدته تلك ، حيثما هو ، يرغب في أن يترحم أحد عليه..يعتقدون أن أحدا لم يعد يتذكره وبالتالي لم يعد أحد يترحم عليه… لذا يقولون عندما يتذكرونه فجأة ، أو تأخذهم الأحاديث إلى ذكراه دون مناسبة ، يقولون “طلبت روحه الرحمة”..
ثم يترحمون عليه…
********************
ألف رحمة عليك يا إبراهيم كريم وادي اللامي…
وألف رحمة علينا جميعا..
مثلك نحن ..
أرواح تطلب الرحمة…
اللوحة للفنان المبدع إبراهيم العبدلي….