مارس 2014
يحدث أحيانا أن تلتقي بشخص غريب عنك ، ثم يقودكما الكلام بالتدريج إلى أن تعرفا وجود كم هائل من الأشخاص المشتركين بينكما..كما لو كنتما تعيشان حياة موازية كل للآخر..
حدث لي هذا اليوم مع رواية طشاري للأديبة المبدعة إنعام كجه جي ..أخذتها أمس ، دون كثير توقعات ، من مكتبة عابرة وأنا في طريقي بين مدينتين ، ومزقت غلاف السوليفان وأنا في انتظار ما ، وسرعان ما أدركت أن في الرواية ما فيها..
صباحا بدأت فيها ، وخلال الصفحات العشر الأولى طلبت مني زوجتي أن أكف عن القراءة ، رفقا بصحتي!
الرواية حقيقية لدرجة أني اتصلت فعلا بعمتي في بغداد لأسألها إن كانت تعرف الدكتورة وردية إسكندر ! ..بطلة الرواية التي يفترض أنها طبيبة سبقت عمتي في كلية الطب بسنوات قلائل(بطلة الرواية تخرجت في عام 1955)..لكن عمتي ـ التي لا تزال في ريعان عطائها ، كانت في عيادتها ، وقد ردت علي فقط لتتأكد من أن أحدا لم يمت..أما هذه الأسئلة فالرد عليها مؤجل حتما!..
الدكتورة وردية حقيقية جدا لأنها تشبه عشرات الشخصيات التي عرفتها في حياتي ، هي ومن معها من أقاربها في الرواية وليس هي فقط..شخصية العراقي “الآدمي” الذي يوشك على الإنقراض ..الرواية تتحدث بوضوح ودون لف ودوران عن معاناة المسيحيين العراقيين ، وهم جزء مهم من فصيلة الإنسان العراقي النبيل الموشك على الإنقراض..و لا أشعر بأي حرج من رواية تتحدث عن أوجاعهم تحديدا لأنني أعرف تماما ما عانوه “خصوصا” وما عانوه “كجزء من بقية العراقيين” والصورة التي تنقلها إنعام عن معاناتهم صورة تمس كل عراقي بمعزل عن دينه ومذهبه..هناك “دمارات” و”دهاليز” عراقية خفية لا يمكن إلا للعراقي أن يفهمها (وربما السوري أيضا لتشابه نظامي الحكم البعثيين) وإنعام تعبر عنها ببساطة البوح البكر الذي تخلص من العقد..
قابلت في الرواية عائلة عراقية من الطبقة الوسطى وخلال ستين عاما من المحاولات المنظمة لقتل واغتيال هذه الطبقة ، تبدأ الرواية بمشهد معبر جدا ، الطببية العراقية ، التي ولدت النسوة لخمسين عاما ، والتي هاجر كل أولادها وبقيت وحدها صامدة رافضة أن تترك بلدها ورافضة أن تموت وتدفن في مكان سواه ، هذه الطبيبة ، اخيرا ، تقبل السفر واللجوء إلى دولة غربية ، بعد أن “سيطر السرسرية على الشوارع” ، وتذهب إلى بلد اللجوء وهي على الكرسي المتحرك..(وكان هذا هو بالضبط ما حدث في العراق مع الطبقة الوسطى…ظلت صامدة وتقاوم وتتآكل بالتدريج إلى أن سيطر السرسرية على كل شيء ولم يعد ثمة جدوى في البقاء بالنسبة للكثيرين)..
شاهدت في الدكتورة وردية اسكندر ، وهي الطبيبة التي عينت في الديوانية جنوب العراق ، شاهدت فيها شقيقتي وهي تذهب إلى “الحي” في الجنوب أيضا..لمحت نظرات التعجب والاستغراب هناك في عيون أهل المنطقة من تلك الشابة الصغيرة الحجم التي يفترض أن تشق البطون بعمليات جراحية…شاهدت جارتنا القابلة نجيبة جرجيس وهي تعتبر أنها أفضل من كل الطبيبات ، تفلت جملة هنا من بين السطور فإذا بي أمام السيدة الفاضلة سعاد فرنكول وهي تقوم بتوصيلنا للمدرسة صباح كل يوم، ..جاءت زميلتي الدكتورة شذى رمو وهي تتحدث- مع شاي الصباح في غرفة المدير دكتور سمير إسحاق- عن والدتها التي انتقلت من الموصل إلى الديوانية لتعيش بصفتها زوجة المهندس هناك….جاء صديقي عامر نافع -صديق الرواح والمجي اليومي إلى الأرياف-….استحضرت الرواية عشرات الزملاء والزميلات ممن عرفت في الدراسة أو المهنة..بل شاهدت أيضا خالاتي وعماتي وبعضا من هواجسي..شاهدت مع “هندة” ابنة الدكتورة وردية دورة الطبيب العراقي في الطبيعة كما نسميها “العراق- اليمن أو ليبيا- كندا!”..شاهدت العشرات من زملائي ممن فرقتهم الظروف وجمعهم الصقيع الكندي وهم في صورة أخرى غير تلك التي في الفيس..شاهدت كل من تفرق وصار لا يمكن جمعه إلا عبر أطلس ملون يضم قارات العالم كلها…
شهقت وأنا أرى اسم “الدكتورة لميعة”(لميعة البدري) وهي صديقة حقيقية لوالدتي وخالتي ، وشهقت وأنا أقرأ اسم الدكتور كمال السامرائي الذي ولدت في مشفاه ذات جمعة قبل أكثر من أربعين عاما ، وترقبت أن أقرأ اسم الدكتور محمود الجليلي ولكنه لم يظهر…مررت على علامات مميزة للطبقة الوسطى العراقية التي لم يفطن عليها جيلي تماما ولكنه ورثها ضمن عدة الحنين إلى الماضي الأفضل ، إلى زمن الخير الذي يتقادم باستمرار..، اسماء مثل (شاشونيك وآرشاك وأوروزدي باك) بدت لي مثل طعنات في ذاكرة مستعرة..
أقر أن عيني لم تنشف طيلة قراءة الرواية ، بل اقر أني أجهشت في أكثر من موقع من شدة قوة كلمات إنعام وحوار أبطالها (حوارهم بينهم؟..حوارهم معها؟؟ أم حوارهم معنا؟؟..لا أدري)..في موقف ما كانت كلمات إنعام مثل خنجر حاد..تقول إنعام على لسان هندة وزوجها وهما في كندا (اقتنعا ، في النهاية بان كندا بلد هادئ يتيح لهما تربية الأولاد كما يريدان. هل تيقنا ، يوما ، من أن هذا الجو هو الأمثل؟ كان توفير الوطن المستقر فكرة رجراجة.لا أمان يدوم في أي مكان.تفاقمت الأمور في العراق وصارت العودة مزحة مرة.ولما وصل الأمر بوردية إلى ترك البلد ، لم تعد المزحة تضحك أحدا.بدون الأمهات تفقد الأوطان ملحها).
هذه الفقرة تلخص حيرة جيلي ، حتى الحيرة التي لا يعترف بها البعض من أفراد هذا الجيل!..كان قلبي مضرجا بدمائه بعد هذه الفقرة.
لكن الرواية تتجاوز بذكاء إغراء السقوط في فخ النحيب والبكاء (وهما هوايتان عراقيتان محببتان تحولتا إلى جزء من الهوية!) ، إنعام ليست فقط روائية مبدعة فنيا ، بل هي أيضا واعية ومثقفة ، وثمة رسائل ذكية موجهة للعراقيين ،..لم تسقط في فخ الشعارات منتهية الصلاحية ، لكن أيضا ثمة رسالة واضحة بأن سلوك النحيب الجماعي يمثل نوعا من الاستسلام للواقع الذي لا بد من مواجهته..
على هامش كل ذلك أحب أن أشيد بصدق إنعام في التعبير عن العراقيين المسيحيين الذين تنتمي لهم ، لدينا أحيانا (خصوصا السنة !) خجل من التعبير عن الهوية الطائفية كما لو الطوائف اختراع استعماري..(كذبنا الكذبة وصدقناها)..لدينا وهم أن تعبيرنا عن انتمائنا المذهبي ثقافة وسلوكيا لا بد أن يتعارض مع الهوية الوطنية أو مع هويات الآخرين…وإذا كانت مبدعة مثل إنعام كجه جي قد عبرت عن مسيحيي العراق فجاء كتابها تعبيرا عن كل العراق ، فأن بقية المعرضين للإنقراض من فئة العراقي النبيل مدعوون للتعبير عن أنفسهم دون عقد أو خجل من ذلك..
أخيرا..سمعت أن الرواية مرشحة لجائزة البوكر.
سبق لي أن قرأت الرواية الفائزة ببوكر في سنة من السنوات، ولم اجد فيها ما يميزها ولو قليلا…
هذه السنة ، لو فازت إنعام ، فأن ذلك سيكون تشريفا للجائزة.
من يعرفها يعمل لها تاغ لو أمكن…”لمسة حنان من غريب”