فبراير 2016
توفت جدتي لأمي رحمها الله في عمر صغير نسبيا ، كانت في مطلع الخمسينات من عمرها ، ودخلت إلى صالة العمليات ( على رجليها ) – كما يقولون في بغداد للدلالة على صحتها – وكانت المستشفى أهم مستشفى في لندن في أوائل الخمسينات من القرن الماضي ، والجراح من أهم جراحي بريطانيا…ثم حصل خطأ طبي…وتوفت جدتي بعد العملية بساعات.
كانت الوفاة حدثا مفجعا على مستوى العائلة..خالاتي كن لا يزلن شابات ، والدتي دون العشرين ، وخالتي الصغيرة في الثامنة…
ولأن العودة إلى بغداد ( مع الجثمان) تطلبت وقتا في الإجراءات ، فقد تأخرت إقامة مجلس العزاء لحين عودة الأسرة من لندن…ولكن كان هناك مجالس عزاء ( أقارب وجيران ) أقيمت فور الوفاة وقبل عودة الأسرة..
ربما لهذا السبب ، فأن بعض النساء اللواتي أدين واجب العزاء في ( مجالس العزاء الموازية) لم يحضرن إلى مجلس العزاء الأصلي لاحقا…
لكن..هيهات..
بالنسبة لخالاتي قسم العالم يومها إلى فسطاطين كبيرين ..الأول هو الذي حضر مجلس العزاء ( الأصلي) والآخر هو الذي فعلها ولم يحضر ( حتى لو كان حضر إلى مجالس العزاء الأخرى)…
هكذا تم تقسيم كل الأقارب والأصدقاء والمعارف على أساس ( الحضور- عدم الحضور) واعتبر عدم الحضور طعنة في الظهر وخذلانا وغدرا…وأعلنت المقاطعة مع كل من انتمى إلى معسكر عدم الحضور..واصبح هناك ( تحين) الفرص للرد ، بعدم المشاركة في أفراحهم وأتراحهم ، والرد العنيف على أي محاولة للتقرب ..
استمر الأمر دون اي مبالغة لعقود..( إذا كان يمكن أصلا اعتباره منتهيا الآن !)…
جاء الأحفاد وكبروا وهم يسمعون هذا الأمر الذي يتم على أساسه تقييم عوائل بغدادية ربما يمكن أن يكون أحفادها مع الأحفاد في المدرسة…وبمجرد تسرب اسم عائلة الحفيد إلى الأسرة…يكون هناك ختم ( لم يأتوا إلى عزا بيبي صبيحة ) ( بيبي = الجدة باللهجة البغدادية ) ( وجدتي هي صبيحة رفعة الجادرجي شقيقة السياسي المعروف كامل الجادرجي -رئيس ومؤسس الحزب الوطني الديمقراطي- وعمة المعماري رفعة الجادرجي)..
كبرنا ونحن متآلفون مع الأمر ، كان من الممكن جدا أن أسمع في الثمانينات ، بعد 30 سنة من وفاة جدتي ، خالتي وهي تسأل أمي إن كانت فلانة قد حضرت ( العزا )…وتكون فلانة قد ماتت وشبعت موتا ولكن حان وقت اتخاذ موقف من بناتها مثلا…
مع مراهقة وتمرد الجيل الثالث ، بدأنا جميعا ننظر إلى لا منطقية وغرابة الموقف بل وهزليته ، وصرنا نتندر فيما بيننا على المواقف المشابهة ، عندما يتمسك أحدهم بموقف حاد رغم مرور سنين طويلة ، فنقول : ( مثل عزا بيبي صبيحة )…
*********
بعض التيارت السياسية – الجماهيرية ، لديها موقف مشابه..لـ ( عزا بيبي صبيحة)..
ورغم كثرة نكبات هذه التيارات ، إلا أنها تعتبر كل من لم يحضر في مجلس العزاء الخاص بها ، قد ارتكب خطأ لا يغتفر…
بالضبط ، يتم تقييم العالم بناء على هذا الموقف…
مثل ( عزا بيبي صبيحة ) بالضبط…
*****
نقف لكم بالأفراح…
اللوحة للفنانة ميساء محمد