يونيو 2021
رحلت لميعة.
آخر العمالقة، شهرزاد القصيدة…
آخر من بقي من جيل الرواد…
كان السياب ( الذي أحبها زمنا ) أول من رحل من هذا الجيل…قبل 60 عاما…
عاشت لميعة بعده زمنا تقلب فيه العراق من حال إلى حال..خرجت هاربة بقلمها قبل أن يتم تأميمه أو إسكاته …وانتهى بها الأمر على ضفاف الأطلسي…بعيدة عن النهر الذي كتبت له يوما باللهجة الشعبية ( حنيت لك يا نهر، يالبردك الجنة، صفصاف شعري هدل، وبمايك اتحنى )…بعيدة عن الجسر المعلق الذي كتبت عنه ( ويظل هذا الجسر يفصلنا ..وكأن دجلة تحته بحرُ
خلقت كل جسور الكون موصلة..إلا المعلق أمرُه أمر.)..
شاعرة التفاصيل المرهفة التي كتبت عن أكثر عبارتين تميز العراقيين في لهجتهم ” هلا” و” عيوني” :
” هلا ” و “عيوني” بلادي رضاها…
وأزكى القرى للضيوف قراها
بلادي ويملؤني الزهو أني
لها أنتمي وبها أتباهى
لأن العراقة معنى العراق
ويعني التبغدد عزا وجاها
*****
بين جيل الرواد، حازت لميعة على المحبة الشعبية الأكبر، خاصة في العقود الأخيرة، ليس فقط لوجود ” قصائد شعبية ” لها..ولكن ساعدتها أيضا طلتها المبهجة وطريقة إلقائها التي تشبه طريقة حديث العراقيين على تكريس هذه المحبة عبر وجود أكثر من لقاء مصور لها ( بينها أمسية شعرية مصورة في الثمانينات ألقت فيها أهم وأكثر قصائدها انتشارا حاليا)..
بالنسبة لجيلي والأجيال الأصغر: نازك وبدر كانا في كتب المدرسة، لكن لميعة كانت في الفيديو، ومن الفيديو عرفناها وعرفنا قصائدها ودواوينها…
نازك كانت مديرة المدرسة التي نحبها ولكننا نحترمها ونهابها فلا نتحدث معها…، وبدر كان ” المشرف” الذي نعرف أهميته أكثر مما نفهمها…أما لميعة فقد كانت ” الست لميعة”، مثل أي مُدرِسة تتجاذب أطراف الحديث مع طلابها وطالباتها…ويمكن لنا أن نمازحها ونتخطى قليلا الحدود معها…
لو أن لميعة بقيت في محلة الكريمات حيث ولدت ( على ضفاف دجلة من جهة الكرخ بين جسر الأحرار وجسر الشهداء،) لربما صار اسمها : باجي لميعة..
وكلمة باجي تعني أصلا الأخت الكبيرة بالتركية، ولكن البغداديين يستخدمونها لكل إمرأة تعدت منتصف العمر ولها مكانتها بالنسبة للمتحدث حتى لو لم تكن قريبة له بشكل مباشر…الباجي هي التي يمكن أن تفهمك أكثر من أمك بل وتتوسط بينك وبين أمك لكي تقنعها ( أو تقنعك! ) بأمر تتعاندان فيه..
لكن لميعة أصبحت ” باجيّة” كل العراقيين بالفعل، وليس فقط أبناء الكريمات…
وكيف لا، وباجي لميعة هي من كتبت من الشعر ما صار جزءا من ذاكرتنا وهواجسنا ..
أقولُ سأهجر كل العراق… ولستُ بأولِ صب هَجَرْ
فيهتفُ بي هاجسٌ لا يُرد.. مكانكِ، إن المنايا عِبَرْ
هنا تُقتلين .. هنا تُدفنين،
أما السرى فمنايا أُخرْ
وتعصفُ بغدادَ في جانحي.. أعاصيرُ مِن ولهٍ لا تَذَرْ
****
وهي التي تحدثت عن ” الكرخ والرصافة “- جانبي بغداد المتقابلين على دجلة- بهذه العذوبة :
دارُ النِّخيلِ الكرخُ ، أطيبِهِ ،
فعلامَ طبعُ نَزيلِهِ مُـرُّ ؟
وَلمَ الرُّصافةُ في تأنـُّقِها
بالكرخِ ليس لأهلها ذِكرُ ؟
يا ثِقلَ كرخيٍّ نُجاذبُه
لطفَ الهوى ، ووِصالُهُ نَزْرُ ،
مُتَرَدِّدٌ بالزهوِ ، أعْجَبَهُ
أنَّ الأحبَّةَ حَولَهُ كُثرُ
يدنو ، فتحسَبُ أنتَ لامِسُهُ
ويغيبُ ليس لِلَيْلِهِ فجرُ ،
ويقولُ : ” مُشتاقٌ ” . وفي غَدِهِ
يتمازجانِ : الشَّوقُ والهَجرُ .
ونُريدُهُ ، وَنُـلِـحُّ نطلُـبُهُ
فيجيئُنا من صوبهِ عُذرُ
وهي التي اختصرت شخصية المرأة العراقية ( على الأقل قبل الألفية ) في قصيدتها : عراقية.
تدخنين؟؟
لا…
أتشربين؟؟
لا..
أترقصين؟؟
لا..
ما أنت ؟ جمع لا !!!
أنا التي تراني… كل هموم الشرق أرداني
فما الذي يشد رجليك الى مكاني
يا سيدي الخبير …بالنسوان
إن عطائي اليوم شيئ ثان
****
كتبت لبغداد ذات يوم بشعرها الشعبي :
عشر الملايين الي أهواهم ولا لي عوض
فاركتهم بالرغم فرض علي انفرض
ما صاحبي بعدهم غير التعب والمرض
والدمعتين الي تنام بشعري تالي الليل
اكول خلصت وثاري الخلص بس الحيل
أدري جبيره الأرض بس مالي بيها غرض…
نام اللي نحبهم تره ياقلق بسك عاد…
بعيد فيَ النخل والغربوك بعاد…
ولهل الحدود الوفا ؟ ياكَّلب ماينراد
دنياك كلها سحر …تيه بسماها طير
كطع خيوط الشرك وتعلم من الغير
ليش المحبة وقف اله عله بغداد؟!
باريس…..باريس حلوه شكثر ماكول
بس بغداد تظل لمعة عيوني من احجي
وتظل ضحكتي الصدك وتظل طعمة الزاد
يبقى الهوى بغداد
****
بغداد تظل لمعة عيوني من أحجي..
وتظل ضحكة الصدق…
وتظل طعمة الزاد…
كتبتها الست الباجي لميعة..على لسان كل من سكن بغداد..
****
في غربتي الباردة قبل أكثر من عقد..
كنت أترنم بهذا البيت
بعيد في النخل
والغربوك بعاد..
لو ترجمتها كما فهمتها لكتبت
بعيدة هي أفياء النخل التي أشعرتك يوما بالأمان.
ولكن…من أجبرك على البعد، بعيدٌ أيضا..
الصورة من إعداد الشهيد صفاء السراي رحمه الله