سألني أحد الأخوة عن تصوري فيما يخص " عذاب القبر" وهل هو حقيقة أو وهم. جعلني سؤاله أفكر كثيرا بالأمر. ما الذي يدفع إلى هذا السؤال أصلا؟ إذا كان السائل مؤمن بالغيب وبالحساب بعد الموت ( وهو كذلك)، فهو بالتأكيد يؤمن بمرجعية لإيمانه الغيبي هذا، وبالتالي فالسؤال عن " عذاب القبر" يجب أن يحال إلى مصادر هذا الإيمان بالغيب، وبما أن محدثكم لم يمر بتجربة القبر - ولا أي شخص آخر- فالجواب محسوم ولا يحتاج إلى رأيي أو تصوري أو سواي. الجواب هو نعم يوجد عذاب للقبر كما يوجد هناك نعيم للقبر. هذا بالنسبة لمن يسلم بمرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية. الأهم من ذلك: بالنسبة لمؤمن بالبعث بعد الموت وبالحساب، وبالثواب والعقاب، فمسألة توقيت كل ذلك جزء من تفاصيل الأمر. هل يحدث جزء من الأمر فورا؟ أم أنه يتأجل إلى "يوم يبعثون"؟ هذه مجرد تفاصيل. الأصل أنه سيحدث. وفيما يخص عذاب القبر فالأمر غير قابل للتجريب والتحقق. الحساب سيحدث بكل الأحوال، والفترة بين موتك والبعث ( البرزخ) هي فترة "غيبية" تماما انقطع عملك فيها، أي أنك لن تتمكن من تحسين وضعك الآخروي بكل الأحوال، بغض النظر عن تفاصيل " وضعك في القبر". بالتأكيد، السؤال مدفوع بحالة التشكيك التي يثيرها الأخوة الأفاضل مراهقو التنوير من محاربي القضايا الوهمية، ما دوافعهم؟ الله أعلم. قد تتراوح بين " نية صادقة في البحث عن الحقيقة باساليب قد أراها -ويراها غيري أيضا-غير صائبة " وصولا إلى " ركوب التريند" بمسمياته العديدة القديمة الجديدة. لا يمكن هنا تجاهل أن الكثير من وعاظ المنابر قد بالغوا في استخدام ما لم يثبت من تفاصيل في ترهيب الناس على طريقة أفلام الرعب وإن هذا ربما خلق رد فعل معاكس خصوصا لمن يكتشف لاحقا أن بعض هذه التفاصيل مكذوبة (مثل الثعبان الأقرع) فينسحب رد فعله على " عقيدة عذاب القبر" ككل. لكن يخيل لي أن الموضوع يتضمن ما هو أكبر بكثير من " رد الفعل". المقصد الجوهري والأكثر أهمية في إثارة هذا الموضوع هو " الحديث النبوي" وليس " عذاب القبر" بحد ذاته. عذاب القبر مسألة " غيبية" بحتة، وهي جزء من منظومة الحساب ( الأكبر طبعا والتي لا يجروء ) مراهقو التنوير ( حاليا) على التشكيك فيه. لكن ما يجري تمريره هنا هو الطعن بمنظومة الحديث النبوي، لأن " عذاب القبر" -وإن كانت له إشارات واضحة في القرآن في أكثر من موضع- إلا أنه أكثر وضوحا وتكرارا في الأحاديث النبوية الكثيرة التي أشارت له، غالبا دون تفاصيل. التشكيك بعذاب القبر ( بطريقة الأخوة مراهقي التنوير) يعني التشكيك بأحاديث كثيرة جدا، رواها عدد كبير من الصحابة، يتعوذ فيها النبي عليه الصلاة والسلام من عذاب القبر، وهذا طبعا يطعن - كتحصيل حاصل- بالمنظومة الحديثية ككل، وهو أمر له نتائجه ومآلاته الأكثر تأثيرا في الحياة اليومية من قضية " عذاب القبر". لا أشك أن تعاملنا مع الحديث النبوي فيه إشكالات كثيرة، لكن هذه الإشكالات تحل عبر عملية تنقية علمية وليس عبر محاولة نسف عشوائية كالتي يحاولها مراهقو التنوير الأفاضل... الثابت والصحيح ( عبر عدد كبير من الصحابة) أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالتعوذ من عذاب القبر ومن فتنة القبر، الأحاديث التي تتحدث عن تفاصيل ذلك أقل، وهناك من ينتقد أسانيدها، وهناك بعضها مكذوبة رغم اشتهارها، لكن هذا لا يغير شيئا من( تواتر) حقيقة حديث النبي عليه الصلاة والسلام عن التعوذ من " عذاب القبر"...وأقصد بالتواتر هنا المتواتر المعنوي العام وليس اللفظي. أي أنه لا يوجد حديث متواتر بعين اللفظ يتحدث عن عذاب القبر ولكن هناك مجموعة كبيرة من الأحاديث التي اختلفت ألفاظها وسياقاتها ولكنها اشتركت في التعوذ من عذاب القبر. هناك قرابة عشرين صحابيا رووا عن النبي تعوذه من عذاب القبر وأمره للمسلمين أن يتعوذوا منه ( منهم: سعد بن ابي وقاص، ابن عباس، عبد الله بن مسعود، عبد الله بن عمرو بن العاص، أبو هريرة، ابو سعيد الخدري، أنس بن مالك، جابر بن عبد الله، المقدام بن معدي كرب، عبد الرحمن بن حسنة، قيس الجذامي، البراء بن عازب، نفيع بن الحارث، أبي بن كعب، زيد بن ثابت، سلمان الفارسي، عوف بن مالك، السيدة عائشة، أم مبشر، رضوان الله عليهم أجمعين)...ما الذي يجعل كل هؤلاء يشتركون في الحديث عن شيء يصفه مراهقو التنوير أنه " وهم"؟ لا شيء طبعا...هؤلاء الصحابة تفرقوا في الأمصار وتوفوا في فترات متباعدة وكل ما فعلوه أنهم نقلوا ما سمعوه منه عليه الصلاة والسلام،ونقله عنهم رواة مختلفون ...نظرية المؤامرة التي تحاول أن تقنعنا أنهم " اتفقوا على تمرير" عذاب القبر لا معنى فيها أصلا. لنكن واضحين هنا: يتحدث البعض عن كون " عذاب القبر" ظني الثبوت، باعتبار أن أحاديثه آحاد، وهذا يفتح الباب طبعا لرفض هذه العقيدة. لكن في الحقيقة أن " تفاصيل عذاب القبر" هي الظنية، وليست العقيدة بمجملها، لأن عدد الأحاديث التي تتحدث عن عذاب القبر ( دون تفاصيل) كبيرة جدا. ماذا عن كون العذاب قبل الحساب يتنافى مع العدالة ؟ في الحقيقة أن هناك جانب يمكن أن يجعل هذا العذاب مكملا لهذه العدالة ...وهو أنه يعد من مكفرات الذنوب التي تجعل الحساب لاحقا أيسر وأخف. عزيزي مراهق التنوير : إذا كنت تريد أن تطعن في عقيدة الحساب والبعث، فلا داعي للتدرج. هات من الآخر حتى يكون النقاش واضحا. وإذا كنت تريد أن تطعن في منظومة الحديث، فلا داعي للطعن، بل حاول أن تساهم في إصلاح ما ينبغي إصلاحه وتجديده منها. لكن النسف ليس سوى وصفة قطع رأس للتخلص من الصداع. ******* قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ يس (52) استخدام هذه الآية هو الأكثر شيوعا في الاعتراض على " عذاب القبر"، حيث يرى المعترضون أن هذه الآية تتعارض مع كل أحاديث " عذاب القبر" باعتبار أن رد فعل "المبعوثين" هنا، يوحي أنهم كانوا راقدين، نائمين، وأنهم في حالة استغراب من استيقاظهم هذا. بالمقابل: هناك آية شديدة الوضوح في سورة غافر تفيد أن الموقع الآخروي يعرض على آل فرعون.. فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ غافر(46) فإذا اعتبرنا أن آية سورة غافر تخص آل فرعون حصرا ، فأن اية سورة يس - بحسب المعترضين- لن تتعارض إلا مع أحاديث عذاب القبر الكثيرة، لكن هل هناك تعارض حقيقي بين آية سورة يس ( من بعثنا من مرقدنا هذا) وبين عذاب القبر؟ الحقيقة أن التعارض قد يفهم عند اجتزاء الآية من سياقها الكامل، فالسياق يقول: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إذن، حسب تسلسل الآيات، هذا القول يعقب النفخة التي تخرج الناس من القبور... لكن هل هذه النفخة الوحيدة؟ لا ، بل هناك قبلها نفخة .. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ الزمر(68) إذن هناك نفخة تصعق الجميع - إلا من شاء الله...وبعدها بمدة هناك النفخة الثانية التي تخرج من في القبور ( لا نعرف هذه المدة ولكن استخدام " ثم" يفيد التراخي، أي وجود مهلة زمنية بين الحدثين)... إذن هذا القول الذي قاله من في القبور جاء بعد النفخة الثانية التي أيقظتهم مما بدا لهم أنه رقاد بعد النفخة الأولى.. وهكذا فالقول الذي يبدو مذهولا، كما لو أن كل ما فات كان مناما حدث في رقدة طويلة، هو رد فعل طبيعي لمن لا يؤمن بالعذاب أو بالحساب، بينما يكون رد فعل المؤمنين: هذا ما وعد الرحمن... فلنتذكر هنا أنه لم يقل أحد أن عذاب القبر يساوي شيئا مهما بالمقارنة بأهوال يوم القيامة، لذا فمن الممكن أيضا أن يكون رد الفعل هذا هو الذي يقارن بين ما مروا به في القبر، وبين ما هم مقبلون عليه....وهذه كلها تفسيرات موجودة في كتب التفسير لم اخترعها ولم آجلبها من بيت أبي، وهي برأيي تزيل بعض اللبس الذي يمكن أن ينتج من قراءة تبعيضية للنص القرآني.... **** علي أن اسجل هنا أمرين: الأول: أن إيمان البعض أن عذاب القبر ونعيمه إنما " حالة روحية" هو أمر يدخل ضمن تفاصيل الإيمان، ولا شيء قاطع يثبت أو ينفي هذا الأمر، لذا فالمجال فيه سعة، وعذاب "الروح" نوع آخر من العذاب ولا يقل بالضرورة عن عذاب الجسد. وهذا الأمر سيجيب بدوره على الأسئلة المتعلقة بالغرقى أو ممن لم يتم دفنهم في الأرض. عذاب القبر أو نعيمه هو الوضع في حالة البرزخ بغض النظر عن موضع الدفن أو حصوله، والله أعلم. الثاني: ما يتداول عن إنكار الشيخ الشعراوي لعذاب القبر غير دقيق ومجتزأ من كلام كثير له، وخلاصة الأمر أنه يثبت أن المتوفي يعرض على "وضعه الأخروي" وإن ذلك يسبب له الحزن والفزع أو السرور والحبور، أي أنه يثبت عذاب القبر بل ويثبته بشدة، لكن حديثه كان عن شدة هذا العذاب أو النعيم مقارنة بيوم القيامة. **** لم تقتنع؟ هذا شأنك طبعا. لكن هذا الأمر يدخل في " الغيب"، لذا فتطبيق قناعاتك العقلية على كل تفاصيله مائة بالمائة أمر قد لا يكون مجديا جدا...خاصة إذا كنت مضطرا من أجل رفض هذا، أن ترفض عشرات الأحاديث النبوية ( وماذا يحدث بعد ذلك؟ أشياء كثيرة متسلسلة وصولا إلى :من قال أن الصلوات بهذه الهيئات أصلا؟ ألا يكفي أن نتصل بالله بأي شكل؟ أليست الصلاة صلة بمعزل عن أي هيئة بلا بلا بلا؟)... ****** قال لي أحد الأخوة أنه استغرب موقفي بناء على مواقف " عقلانية" سابقة لي. حبايبي: هذه الأمور تقع في مضمار آخر تماما، هذه تقع في " الغيب". أتهجاها ؟ غ ي ب. هذه ليست نظرية علمية تفسر ما حدث ويحدث في عالم المادة والواقع لكي نطبق نفس العقلانية والمنهج العلمي عليها. هذا " غيب"، والتعامل مع الغيب ( ما دمت مقتنعا بمصادر إيمانك به) يجب أن يحدث بطريقة مختلفة تماما عن التعامل مع نظرية التطور مثلا أو القضايا الفقهية القابلة للتغير بحسب الظروف. أعيد التهجئة: غ ي ب. **********