لماذا نحن أقوى في رمضان؟ الجواب المباشر لهذا السؤال هو لأن الشياطين مصفدة خلال الشهر الكريم. وأنا شخصيا أؤمن بصحة هذا الجواب ( المستند على حديث متفق عليه بلفظ: وسلسلت الشياطين) لكني أؤمن أيضا أن الشياطين تجري من الإنسان مجرى الدم ( حديث متفق عليه أيضا) ، لذا فإن آلية هذا التصفيد وكيفيته قد تكون من خلال عمليات نفسية داخلية تجري في مكان ما من لا وعينا أو في تلافيف أدمغتنا أو في غياهب النفس البشرية، وليست بالضرورة من خلال عملية تقييد ( مادية) بالسلاسل الحديدية للشياطين فور دخول هلال الشهر الكريم. لا شيء في نصوصنا يقول أن للشيطان شكلا ماديا واحدا محددا لكي تكون عملية التصفيد ( مادية) مباشرة، وأن كان لا شيء يمنع حدوث هذا في بعد غيبي لا ندركه، لكن لا شيء يمنع أن يكون لهذا التصفيد امتداد موازي داخل النفس البشرية. لذا، ولأني أؤمن بالحديثين، ( التصفيد في رمضان، وجريان الشيطان من الإنسان مجرى الدم)، ولأن أثر التصفيد الرمضاني واضح لكثيرين، على أنفسهم على الأقل، فأني أرى أن فهمنا لآلية هذا التصفيد الرمضاني- الذي يجعلنا أقوى في رمضان- قد يساعدنا في أن نكون أقوى في بقية شهور السنة. لا أقصد بنفس قوة رمضان، لأن القوة في رمضان تتداخل مع عوامل اجتماعية لا تخفى ولا يمكن إنكارها، لكني أعتقد أن ثمة درس مستفاد من التصفيد الرمضاني الجماعي، بحيث يمكن أن ينتفع به في قوة فردية لبقية السنة. فلنأخذ الأمور بالتدريج، هل نحن أقوى حقا في رمضان؟ قد يقول معترض أن ما نتحدث به عن ( قوتنا) في رمضان يعود إلى وجود رقابة اجتماعية أكثر تشددا في رمضان من بقية السنة، وأن هذه الرقابة - في رمضان- قد تمتد لتشمل حتى بعض ( من تعودنا أن نسميهم رفاق السوء)، وبذلك فأن رفاقنا في المعاصي في بقية أشهر السنة، قد يتحولون (أو يتحول بعضهم على الأقل) إلى رقباء، وهذا يجعل إظهار أي معصية أمر أكثر صعوبة، وهذا بدوره قد يحفز المنافسة بين الأقران، لماذا فلان أفضل مني؟ لماذا يبدو أكثر قدرة على التحكم في شهواته؟ هذا كله وارد. ولكنه لا يكفي لتفسير ما يحدث. علما أن هذا التفسير، في منطقة من مناطقه ( = المنافسة بين الأقران) قد دخل في بعد نفسي داخلي. لم نعد نتحدث هنا عن رقابة اجتماعية خارجية، بل عن دوافع نفسية داخلية. لذا فقد خرج الأمر من ( الخارج)، ودخل في ( الداخل). سأضع خط هنا تحت هذا وأتركه جانبا لكني سأعود له لاحقا. هذا الاعتراض سيفقد منطقه أكثر عندما نسمع عن قصص قوة رمضانية تحدث في منافي بعيدة وأصقاع غربة لا يوجد فيها أي مظهر رمضاني اجتماعي. هذا واقع معروف. هناك من يصوم وحده، ويفطر وحده، ويصلي التراويح وحده لأن أقرب مسجد يبعد عنه مئات الكيلومترات، البار على ناصية الشارع، وقد ذهب له عدة مرات خلال السنة، ولكن يأتي رمضان، ويختلف كل شيء معه. سيقول نفس المعترض أن هذه محض إرساءات وتثبيتات fixations من طفولة هذا الشخص ، غسيل مبكر للدماغ، وبقايا من تربيته الدينية ( غالبا سيضيف الأخ المعترض لفظ المتشددة أو المتطرفة ليكسب نقاطا في النقاش لكن ما علينا). ليكن. هذه إرساءات نفسية أو تثبيتات من الطفولة أو نتائج للتربية أو ( بقايا ضميره الديني). بكل الأحوال، هذه عملية داخلية. ولو رفضنا كل ما نتج عن تربية الطفولة أو إرساءاتها لما بقي خيار حر واحد. بما في ذلك اعتراضات المعترض. سيكون كلامه نتاجا قسريا لظروف شخصية نفسية مر بها وجعلته يرفض رمضان وعبادته. وهذه بتلك. ما دام الأمر داخليا، فلا يمكن رفضه بمجرد أن نفترض أن هذا ( غسيل دماغ)، لأن هذه الحجة يمكن أن تستخدم بنفس الفاعلية مع كل الحجج ومع وضد كل الأطراف. بكل الأحوال، ضمير أو بقايا تربية أو إرساءات طفولية، العملية هنا داخلية. خط آخر تحت هذا، ونضع هذا بجانب ذاك ونعود لهما لاحقا. حديثنا عن قوتنا ( أكثر) في رمضان إذن، حقيقة ملموسة لكثيرين، بغض النظر عن الأسباب. الحديث هنا حصرا عن الأشخاص المؤمنين بأركان الإسلام الخمسة ولكنهم عموما أقل التزاما بتطبيق ( غالبا الركن الثاني منها)، وأكثر ارتكابا للمعاصي والمنهيات. أما الأخوة الملحدون هداهم الله فهم ليسوا مشمولين بكلامي هنا بطبيعة الحال، علما أن الملحدين ليسوا في خانة واحدة في موقفهم من رمضان. فهناك ملحدون محايدون من الأمر ولم يعد رمضان وكل ما له علاقة به يعنيهم بشيء، وهناك ملحدون تنغص عليهم حياتهم فرحة الناس برمضان فيرابطون في كل منصة للهجوم والسخرية، والصنف الثاني غالبا ألحد بسبب حدوث صدمة نفسية نتجت عن وجود ( ظلم باسم الدين)، سواء كان الظالم أبا قاسيا يبرر ظلمه بالدين، أو أشخاص يتظاهرون بالدين وسلوكهم بعيد عنه، أو أن يكون الظلم عاما عبر سلطة بررت ظلمها باسم الدين، مثل أي من داعش وأخواتها ومثيلاتها. هؤلاء بحاجة إلى طبيب أو معالج نفسي لعلاج آثار الصدمة قبل كل شيء، ولا أقول هذا انتقاصا أو سخرية منهم على الإطلاق، فهم في هذا السياق نتيجة لواقع مرضي يجب تصحيحه، لا ينفي هذا مسؤوليتهم عن الأمر لكنه قد يجعلنا نفهمهم أكثر. وبالمناسبة، فالطبيب أو المعالج النفسي الذي يجب مراجعته يجب أن يكون ليس بحاجة لعلاج نفسي هو الآخر، أو أن يكون على الأقل في طور العلاج إن كان بحاجة لذلك. وهذا أيضا ليس انتقاصا من الأطباء والمعالجين النفسيين ، فكلنا معرضون لهذا، بما فيهم أطباء الأسنان والكتاب أيضا، لكن الضغط النفسي الذي يقع على العاملين في مجال الصحة النفسية كبير جدا وقد يؤدي إلى حاجتهم إلى علاج من آثار هذا الضغط. كما أن البعض منهم قد يكون قد دخل المجال ولديه مشاكله، لكن هذا أمر آخر. نعود إلى موضوعنا. نحن أمام ظاهرة القوة في رمضان، ومظاهر هذه القوة تتمثل غالبا في أمرين: الأول : التزام أكبر بالشعائر( عند اشخاص يؤدونها بتراخي باقي السنة او لا يؤدونها أصلا ) والثاني: ابتعاد عن منهيات ومعاصي متفاوتة الحجم وقد تصل إلى الكبائر( عند أشخاص يمكن ان ينتهكون هذه المنهيات ويقترفون هذه المعاصي بقية أشهر السنة). هذان الأمران، في الجوهر، يعودان إلى شيء واحد. التحكم بالنفس. في الحالتين، الالتزام بالشعائر، والابتعاد عن المنهيات، هناك زيادة في التحكم بالنفس،زيادة في الانضباط، للوهلة الأولى قد يبدو أن ( الابتعاد عن المنهيات) فقط هو الذي يحتاج إلى ذلك، لكن الالتزام بالعبادات والانتظام عليها يحتاج أيضا إلى هذا التحكم بالنفس. عند هذه النقطة نصل إلى منطقة محددة في الدماغ مسؤولة عن ( التحكم بالنفس). أو بالأحرى نصل إلى منطقتين تتعاونان فيما بينهما للوصول إلى ( التحكم بالنفس) حسب دراسات عديدة جدا، فأن الجزء المسمى ventral medial prefrontal cortex أو (قشرة الفص الجبهي الإنسي البطني) من الدماغ يكون المسؤول عن عملية التقييم بين خيارات ( متضادة)، يشمل واحد منهما الحصول على لذة أو مكافأة آنية، ويشمل الآخر على تأجيل هذه اللذة أو كبحها. أما الجزء المسمى dorsolateral prefrontal cortex أو القشرة الجبهية الظهرية الوحشية من الدماغ فهو يقوم باختيار ما هو أفضل على المدى البعيد. أي أنه يحسم خيار تأجيل اللذة أو المكافأة أو كبحها المؤقت على الأقل. هاتان المنطقتان من القشرة الدماغية تتعاونان بينهما ويزداد نشاطهما والدوائر العصبية بينهما في الأشخاص الذين لديهم تحكم أعلى بالنفس، بالذات في لحظات التحكم بالنفس. بطبيعة الحال، الدراسات لم تختبر ( رمضان) أو زيادة تحكمنا في أنفسنا خلاله، بل اعتمدت على تجارب تحتوي على مغريات أو لذات آنية ( طعام لذيذ وغير صحي أو نقود)، مقابل مكافآت مؤجلة ( صحة أفضل، أو نقود أكثر لاحقا)، لكن جوهر التحكم بالنفس يبقى واحدا. إلى هنا، نكون قد حددنا منطقتين في الدماغ لهما علاقة بسلوكنا في رمضان، لكننا لم نعرف كيف. كيف يمكن جعل التحكم بالنفس فعالا، ولماذا يكون التحكم بالنفس أكثر فاعلية في رمضان منه في بقية أشهر السنة، بالتأكيد ليس هناك زر نضغط عليه ليفعل هاتين المنطقتين ( للاسف!). هذا ينقلنا من تشريح الدماغ وعلم الأعصاب، إلى علم النفس. حسب نظرية تنظيم الذات ( self - regulation theory ) فأن التحكم بالذات للوصول إلى سلوك معين يتم من خلال أربعة محاور. الأول- وجود معايير منضبطة/ واضحة لهذا السلوك - الهدف. الثاني- وجود حوافز أو مكافآت للوصول إلى هذا السلوك الهدف. الثالث- وجود مراقبة( ذاتية) للمواقف والأفكار التي تسبق كسر هذه المعايير. الرابع - وجود إرادة لتحقيق هذا السلوك. لو أخذنا هذه المحاور الأربعة وطبقناها على رمضان، لاقتربنا ( في رأيي ) من فهم لماذا نحن أقوى في الشهر الكريم. أولا- معايير السلوك الرمضاني واضحة ومحددة. نحن هنا نتحدث عن سلوك بمعالم واضحة وصارمة تتعلق بعدم الأكل والشرب والابتعاد عن منهيات واضحة ( الكذب مثلا، أو أمور مفطرة بعينها في نهار رمضان). كذلك تتضمن المعايير أداء الصلوات غالبا بسبب الفهم العام أن الصوم لا يصح دون صلاة، ولأن أجر صلاة الجماعة أكبر فهذا يقود كثيرين إلى صلاة الجماعة. المهم أن المعايير للسلوك الهدف واضحة وضمن مدى زمني محدد ( شهر)، أي أنك لا تتحدث عن صفات غير معيارية للعبد الصالح الذي يقضي حياته في الزهد والتقوى، بل تتحدث عن وصفة محددة، ليست صعبة التحقق واقعيا، وخلال مدة محددة ليست طويلة. ثانيا- المكافأة أو الجائزة: واضحة جدا في رمضان. المغفرة. نحن هنا نتحدث عن فرصة ( قريبة) للتخلص من ذنوب ومعاصي وتقصير حدث خلال السنة الماضية. الحسبة واضحة والجائزة مؤجلة ولكن تأجيلها ليس بعيدا جدا. نتحدث عن نهاية الشهر. لذا فهي أيضا قابلة للتحقق حسب معيار الفرد العادي. ثالثا -الرقابة الذاتية: سمها رواسب تربية، إرساءات أو تثبيتات من الطفولة، ضمير، أو أي مصطلح آخرـ في النهاية هذه دوافع ذاتية نابعة أصلا من الداخل حتى لو غرست فيه من الخارج. لكنها أصبحت داخلية تؤثر عليه في السر والعلن. داخلية. وهنا نستعيد ( ما تحته خط) في الجملتين سابقا. كلا الأمرين كانا داخليين. وهذا يربط بين الحالة في رمضان والمحور الثالث للتحكم بالنفس. رابعا- الإرادة. هذا المحور هو الأصعب فهما بالتأكيد، ونظرية التنظيم الذاتي تقول ضمن ما تقول أن هناك مخزونا لقوة الإرادة وأنها يمكن أن تنضب بعد مدة، وهذا قد يفسر الفتور الذي يحدث بعد فترة من بدء رمضان، ثم تأتي العشر الأواخر وتحري ليلة القدر لتقدم صعقة كهربائية لهذه الإرادة، وهو أمر متحقق ومشاهد ذاتيا وعند أغلب الناس. هذه المحاور الأربعة للتحكم بالنفس تتطابق مع الحالة الرمضانية. وهي قد تساعدنا في فهم ( كيف) نحن أقوى في رمضان. **** نعيد السؤال: لماذا نحن أقوى في رمضان؟ لأن الشياطين تصفد فيه. ولأن الشياطين تجري منا مجرى الدم، فربما هناك آليات داخلية عميقة لهذا التصفيد. أما كيف يمكن الاستفادة من فهم هذه القوة خارج رمضان، فهذا قد يكون موضوعا لكتاب قادم بعونه تعالى… **** رمضانكم مبارك جميعا، وكل رمضان وأنتم أقوى، وتستفيدون من درس القوة هذا في بقية السنة. المصادر https://web.archive.org/web/20190402215439/https://pdfs.semanticscholar.org/1c6e/13d6a15e5110392045a412b344dd99f80648.pdf https://edition.cnn.com/2013/09/14/health/self-control-brain/index.html?fbclid=IwAR0QisRayT_NX8_I4R9e6LzWWh4rjU8AzTTRD5sWBGnFKo_ZMuG0cm-6mmA https://www.apa.org/topics/personality/willpower?fbclid=IwAR1OCSrAGVNcy1oOVRoJVj6QqldG2SR6D7jrt6cUvkgNiAdiAmamIJt6Xhc https://pdf.sciencedirectassets.com/272419/1-s2.0-S0749597800X01501/1-s2.0-074959789190022L/main.pdf?X-Amz-Security-Token=IQoJb3JpZ2luX2VjEBAaCXVzLWVhc3QtMSJIMEYCIQDvt0Qz1LVpk038tzmFSAwyId%2B6vxXMfT05FbAG3sOqAQIhAOWMK75jOiwAlVdAek9xuEzaSKJ%2BNHJ0lXRVR3FfyxDjKrMFCBkQBRoMMDU5MDAzNTQ2ODY1Igxl7jJLLMnZoQT1oJkqkAWwD2aWHAjzns9YPy7dMxDkpPmIWWSzVMf%2BMFiwtGQ6K38zabIprTDc7GmZuBqJl4fYMvLKsbgviIl8vpARZ7oQoPtc4kI9onMVaMMOtWb8Yei5Dux0lzQ0%2B%2F7HV4vSRIKoLyCD6v%2BXWvTA494JVsLRVQZ%2FZA4s%2Bf%2B16WEf5mTTuIPASAey8J%2BkkjJ4koAohdGSELNooZK7xKoo6OeHYUqRSVQJnKsxY7%2BLO%2BlUoWgF7VeAfeyGSOczB1QwmiVXYo90Qq8LkpTMoXG6pZPEcSNgvPP3%2FzvAVcVeWvcwdyrzTJTgGR0kS6OYn9yDk1wEhwzUCTXQNJAnHEfgVxVsO4SO99XICAXjKQ4oiyidRClJ3IWKy8PbiZ0jDiBgRyBYvvIwSTdPz5gOMMJ9UJT41jc1EN2Zs60DVo%2FbjbGrQ9Hph5eTbw1igHaCjAx0tUvKQMgT%2BqbFca9L8ca9gIxZ1eXDEjquy5%2BKfhg8%2F9t0mJ5OQg6YeNhRexB8Qnyvop4Gf87ax86f8xO17DRziUZkC6m9AKIKiTbwFFPR0MD0byKs7J3gp1LVsH3dmG7gLUh2KsnIe8cPqMXwByk8hO7mUzkQsp3NwiiwRxZBFjTV6JufUK9w4wUucXfNTO4ivILSlZLVgfmURIOhTsX8c1gBT2jtysliC1YPWzuK%2FsogpN2sYCOO0FXhOC4h%2BG6SxIu7RvnIdrchVb4JvAOOMPqH237qfW%2FbZoQLTBD9VewUiGkpH01XUErFVKc6Pf8z%2FLD1WC7iTwt56V4DMT96X7nOl%2FoRbLGGcxH%2FTvil8vni8BeO5Rf4K2%2FAUTkmaE7zuSfOaAxmfCzGotqxcyl475wga2rdJoDtVDZFmEYvOiTC%2Fj5W7zCUqLevBjqwAWNq0c8qtYDFwOKDHfmTxihIwkUKw89tjbco%2BFa%2BPI7%2Fd2CR3vDVTIBI46hkay7atw4wXK3qj28lq