في الطائرة أمس أنهيت رواية غادة السمان الجديدة “يا دمشق وداعا”…
وهي بالتأكيد لن تكون أحب أعمالها إلى قلبي ، فمرحلة الستينات والسبعينات من نتاجها هي الأثيرة في نفسي…ولكن هذا بحد ذاته إنجاز ، أن لا تزال قادرا على العطاء والإبداع للعقد السادس على التوالي !
الرواية هي الجزء من الثاني من روايتها “الرواية المستحيلة” التي قدمتها كالجزء الأول من سيرتها الذاتية “روائيا”. ركز الجزء الأول على طفولة ومراهقة “زين” (اسم البطلة التي يفترض أنها غادة ) في دمشق الأربعينات والخمسينات والانتقال من الحارة الدمشقية ” زقاق الياسمين” إلى البيت الحديث في ساحة النجمة بكل ما يصاحب ذلك من تغيرات اجتماعية…
أما الرواية الجديدة فهي تدور في الستينات ، حيث كبرت المراهقة وصارت شابة تصارع المجتمع والظروف والتقلبات السياسية ومن ثم تودع دمشق إلى غير رجعة على ما يبدو…
حرصت غادة دوما على أن لا يفكر القارئ في أنها بطلة كتبها …بل نصحته مرارا أن يفتش عنها أحيانا في الأبطال الذكور…لكن مع رواية كهذه لا يمكن لهذا أن يحدث…نحن أمام بطلة لها كل مواصفات غادة…وغادة تقول أنها سيرة ذاتية بشكل روائي ولكن تقول أيضا أن الأحداث والشخصيات غير متطابقة تماما….لا يمكن لنا إلا أن نصدق غادة…ولكننا سنسرح في كل تفصيل : هل حدث هذا حقا ؟ سنقف أمام كل شخص من شخوص الرواية لنبحث لها عن نظير واقعي…تساعدنا غادة نفسها في الحل أحيانا بذكاء..كما لو كانت اللعبة تروقها..
تكشف غادة الستار عن أمر سكتت عنه طويلا وحاولت تجاهله كما لو أنه لم يكن يوما…وكنت أعرفه شخصيا بسبب (علاقاتي الدمشقية ) التي عاصرت الحدث..أقصد زواجها الأول الذي حاربت الدنيا من أجل أن يحدث ، ومن ثم حاربت الدنيا أيضا كي ينتهي …
غادة لم تأت على سيرة زواجها هذا قط ، وعاملت زواجها من بشير الداعوق كما لو كان الأول…واليوم تقدم الأمر روائيا وبدرجة كبيرة من الصدق ، أو كما سمعت أنا عن الأمر على الأقل…كانت مراهقة جامحة…كان وسيما جدا ..أحبته لذلك..حذرها أهلها..حذرها أهله..لكنها أصرت..خلال أقل من سنة اكتشفت أنهم على حق..وقررت أن تصحح الخطأ…بأن تطلقه…
تجربتها المبكرة هذه (في تصوري) غيرت من غادة كثيرا ، وأثرت على علاقتها لاحقا بكل من عرفتهم…جعلتها أكثر سيطرة على عواطفها..وبالتالي أكثر سيطرة عليهم..يتجلى هذا بالذات في علاقتها بغسان كنفاني الذي يظهر باسم (غزوان العائد) (غزوان قريبة إلى غسان ، والعائد نسبة إلى روايته الشهيرة عائد إلى حيفا)…
من الواضح تماما أن غادة لم تحب غسان فعلا ، بل استلطفته فحسب..وكان صديقا لها تحب قلمه و تحب أن يغرم قلم مثله بها…لكن لا حب من طرفها…
غادة أيضا تذكر حادثتين سيتمنى من يحبها لو أنها لم تحدث…واحدة منهما تقدمها بطريقة تترك مجالا للقارئ من نوعي أن يقول أن من فعل هذا هو خيال الكاتبة فقط…( هي تناقش نفسها بنفسها وتتساءل هل حدث ذلك فعلا أو لا….كي تترك للقارئ هامش الهروب)… لكن من الواضح أنه حدث!
ليست أفضل رواية لغادة بالتأكيد….لكن عمل أدبي مميز…ورقي في التعبير..وقصة إمرأة صححت خطأها وتمردت على اختيارها…فصارت أهم كاتبة عربية لاحقا..وكان يمكن أن تبقى زوجة تعيسة في بيت مترف في حي راق في دمشق.