لم أحب يوما النصوص ( المتكلفة – المتعالمة) التي تتميز دوما بوجود كلمات طويلة على نحو مبالغ به.. النصوص ذات اللغة المعقدة الغامضة التي تحتاج إلى ( فك شيفرة) بين كل جملة وأخرى، والتي تشعرك دوما أن الكاتب كان يرغب بالبداية بكتابة لغز الكلمات المتفاطعة لصحيفة ما، ثم عدل من رأيه وكتب ما يعتبره هو مقالا..أو منشورا..أو قصيدة…أو قصة قصيرة…
كنت أجد في أحيان كثيرة ان فحوى النص يمكن أن تقدم على نحو أبسط دون اللجوء إلى الألفاظ المصابة بعسر هضم وتضخم في عدد الأحرف والتراكيب المكونة من عدة كلمات مصابة جميعا بتورم.
في أغلب هذه النصوص، كنت أجد بين السطور رسالة ضمنية من الكاتب يقول فيها: أنتم لا تفهمون لأني أعمق منكم…هذا كل شيء…
كنت محظوظا لأني نشأت في ظلال بيت أدبي منحني المناعة ضد الخلط بين العمق والتعقيد، وحصنني من الإنبهار بأي غامض على أساس أنه عميق على نحو لا يمكن فهمه.
في الوقت نفسه، كبرت وأنا ألاحظ نصوصا ليس فيها إلا غموضها، وقراء في حالة انبهار وتصفيق وغزل شديد لحالة الإبداع في التعقيد…
وجدت الفرص أكثر من مرة لأسأل القراء المنبهرين عما فهموه من النص..
كما وجدت الفرصة أحيانا لأوجه السؤال للكاتب نفسه…ماذا كان يقصد من النص…
وكانت الأجوبة في الحالتين تؤكد لي الفكرة المسبقة…المنبهرون خدعتهم الألفاظ المعقدة…والكاتب كان يمكن له أن يعبر عن فكرته بأسلوب أبسط بكثير…
قوة بعض هذه النصوص التي تجمع بين الخواء والتعقيد مستمدة في رأيي من وجود من يخدع بها أولا، ومن ثم مستمدة أيضا من تجنب الكثيرين لكلمة ( لم افهم)..كثيرون يقرؤون هذه النصوص ولا يفهمونها لا يرون فيها شيئا إبداعيا ولكنهم يحجمون عن التعليق أو التعبير عن عدم الفهم لأسباب مفهومة…
السوشيال ميديا وضعت اللمسة التضخيمية الخاصة بها على الموضوع..فصرنا نرى النصوص الغامضة الحائرة والمعلقين المصفقين الذين يكتبون بالمقابل نصوصا معقدة تنال إعجاب نفس المعلقين وهكذا..
بالتأكيد من حق أي شخص أن يكتب مقال الكلمات المتفاطعة الذي يرغب به ومن حق أي شخص أن يصفق لذلك أيضا ويصرخ مطالبا بالمزيد من عسر الهضم..المشكلة هنا أن كل هذا قد يفسد ذائقة البعض ممن يتوهمون أن الغموض ملازم للعمق، ويفسد – وهو الأخطر- أصحاب المواهب من الصغار الذين قد يضطرون لتعمد الغموض كي تبدو نصوصهم عميقة وجديرة بنيل الاهتمام…
أمس نبهني الأخ Omair Hab إلى وجود دراسة عن الأمر..تتبعت الدراسة وحصلت عليها كاملة ووجدتها جديرة بالاهتمام بل والترجمة لمن يستطيغ..
الدراسة نشرها دانيال اوبنهايمر من جامعة برنستون في مجلة Applied Cognitive Psychology في 2006 ( الرابط في التعليقات)…
الدراسة بنيت على خمس تجارب أجريت على مجموعة مختلفة من الطلاب في جامعة ستانفورد لقياس مدى العلاقة بين تعقيد النصوص وتقبلها و تقييم ذكاء كاتب هذه النصوص.
التجربة الأولى اعتمدت على تقديم نماذج ( Personal statements ) وهي جزء من متطلبات الدخول للدراسات العليا وتشبه مقالة يعبر فيها المتقدم عن أهدافه من الالتحاق بهذا التخصص- النماذج الأصلية تم إعداد نسخ معدلة منها على نحو يجعلها أكثر تعقيدا عبر استخدام ألفاظ بديلة اطول وأكثر تعقيدا للتعبير عن نفس المعنى.
وهكذا تم تقديم النسخ الأصلية والمعدلة إلى مجموعتي طلاب وطلب منهم ( ضمن أسئلة أخرى كثيرة) تحديد اسنحقاق الطالب كاتب النموذج للقبول في الدراسات العليا، وكذلك تقديرهم لذكاء الطالب.
نتيجة التجربة كانت أن النصوص التي عدلت حصلت على قبول أقل، وكان تقييم المشتركين لذكاء أصحاب النماذج المعقدة أقل من النماذج الأصلية.
أي أن تعقيد النص لم ينجح في قبول المتقدم، ولم يعط الإنطباع عن ذكائه.
التجربة الثانية اعتمدت على تقديم ترجمتين مختلفتين لنفس الفقرة من تأليف رينيه ديكارت..الترجمة الأولى كانت باستخدام لغة معقدة وكلمات أطول، والأخرى كانت بلغة أبسط..وزعت كل ترجمة على نصف المشتركينـ وأبلغ نصفهم بأن النص الأصلي لديكارت بينما أبلغ النصف الآخر بأنه لمؤلف مجهول.
طرح على المشاركين مجموعة اسئلة عن تقييمهم لذكاء الكاتب على مقياس من 0 إلى 7، ومدى فهمهم للنص على نفس المقياس…في المجموعتين، كان تقييم النص الأكثر بساطة أعلى، وتقييم ذكاء ديكارت كان أعلى عندما كانت الترجمة أقل تعقيدا.
التجربة الثالثة كانت باختيار 25 ملخصا abstract لدراسات ماجستير من قسم علم الاجتماع في نفس الجامعة، الاختيار تم بناء على وجود أكبر عدد من كلمات تتألف من 9 أحرف فما فوق…ثم تم تعديل هذه الملخصات على نحو يستبدل هذه الكلمات بأقصر المرادفات المعجمية…مرة أخرى طرح سؤال ذكاء كاتب الملخص، ومدى فهم المشاركين للملخص على مقياس من 0 لى 7..
ومرة أخرى ارتفع الفهم والذكاء مع النصوص المبسطة، ووانخفض مع النص الأصلي حيث الكلمات المصابة بتضخم…رغم أن الفحوى واحدة تماما.
التجربة الرابعة والخامسة تحكمت في طريقة تقديم النماذج، حجم ونوع الخط ( الفونت) في التجربة الرابعة، واستخدم حبر خفيف low toner في الخامسة..المشتركون أبلغوا بأن نوع الفونت هو من صاحب التجربة وليس من كاتب المقال…وكذلك الحبر الخفيف، رغم ذلك، فأن الأجوبة عن صعوبة الفهم كانت مع مؤشر مرتفع للفونت الأقل وضوحا، وكذلك تقييم ذكاء الكاتب، والشيء ذاته كان مع الحبر المنخفض…رغم أن كل المشتركين حصلوا على النص نفسه، لكن بنوع خط مختلف، وجودة حبر مختلفة.
والتجربتان الأخيرتان تصبان في فكرة الوضوح بشكل عام، وضرورة توصيل الفكرة بأكثر الوسائل وضوحا..وتأثير ذلك على الفهم وتقييم الذكاء…
******
أعرف طبعا أن الوضوح والغموض نسبيان جدا..وأن ما يعد واضحا لكثيرين قد يكون غامضا لغيرهم، وقد يأتي من يعلق أن ما أكتبه أنا غامض بالنسبة له ( رغم أني متهم مزمن بالتبسيط)…لكن يبقى هناك أمور معيارية تحدد الخط بين هذا وذاك..من ضمنها استخدام العبارات الأطول والتراكيب المعقدة…على سبيل المثال…
***
ملخص الدراسة أعلاه يقول: بالنسبة للكثيرين: التعقيد يتناسب طرديا مع غباء الكاتب…
عكس ما يحاول بعض الكتاب إيهامنا به…